جدتي الرومية، للدكتور السيد شعبان جادو

ما يزال جراب الحاوي يفيض كل شتاء، تساقط الأمطار يستدعي الحكاية: في سرداب يسكن سر تختفي فيه كنوز الأجداد، تتكور كما لفافة تدحرجت سنوات ومن ثم تجمعت فيها أشياء من كل لون: أوراق أرض الأوقاف تلك التي مات زمن من وهبوها للأزهر أو الكنيسة أو حتى مقامات الأولياء ذوي العتبة الخضراء، أو أنساب السادة الأشراف ممن عطروا بمقامهم أرض المحروسة، في اللفافة حكايات عن ذهب مطمور في البر والبحر؛ يحرسه جني أحمر أو يدلس به إنسي له خطر، تجوب حارتنا أقدام غريبة حين ينتصف الليل وفي شدة العتمة يتسللون ناحية النهر، شق في باطنه يوصل إلى مغارة تعرفها عجوز تتوكأ على عصا،
يقول شيخ المسجد في حارة المغاربة: ورثت الرومية من سيدنا موسى عصاه فهربت الأفاعي زمنا، كاهن كنيسة كفر الخير يقسم إنها ربما نالت من المسيح سر مداوة المرضى، لكنها تعجز أن تحيى الموتى؛ الرب وحده من يعيد روح الذين صعدوا إلى ملكوت السماء، في عظته كل أحد يوصي بالرومية، ربما هي من أضافت مريم العذراء وقدمت لها ولابنها الرغيف المعجون بلبن عنزة، ومن يومها بلادنا مملوءة بالبركة آواهما الله إلى ربوة ذات قرار، حمامتان جاءتا ناحية فسطاط عمرو فكانت اللبنة الأولى محروسة من شر حاسد إذا سرى حسده سما، أو ثقب فأر سبأ في السد.

دبت الحياة في جبل المقطم، شق مجرى العيون حجارته، سكن الناس هناك.
لكل نبي أمارة وقد انتهى زمنهم، الأولياء وحدهم يعرفون الطريق، يزرعون البر بالقمح يحلبون الشياه لبنا، يطعمونه الفقراء وأبناء السبيل.
تنادي الرومية في شوارع حارتنا كل واحد منا باسم أمه، للطيبة التي سكنت كفرنا ملامح سيدنا الخضر ونبوءاته، ثمة مقولة تروى أنها منذ نصف ألف من السنيين تجدد عمرها كل مائة عام.
هي من باركتنا يوم ولدنا، تتشمم رائحة الغرباء، ترفع عصاها كلما اقترب واحد من ضفة النهر اليمنى؛ كفرنا مليء بأسرار لما يأت أوان كشفها، الجدة الرومية ذات عمر طويل؛ تناهز المائة ولم تصب بغير حدبة تعلو ظهرها؛ عيناها جميلتان كما شعرها الأبيض الذي تروى عنه حكاية أخرى؛ حين كانت أمي تمشط شعر أختي تدعو الله أن يطول ويطول حتى يقارب شعر الرومية، تتساءل أختى وهل سأكون حمراء مثلها؟
تصمت أمي، ولكنها تتمتم في خفاء من سطوة الجن الذين يتسمعون أخبار الجميلات؛ تتعوذ بالله من هاجس يخيم على ذاكرتها، الجدة الرومية ألقت بها سفينة مغربية فرت بها من بلاد بعيدة، حكاية عجيبة من وراء جبل أتت؛ ابنة الرجل الذي سلم مفاتيح المدينة الأخيرة؛ على ظهرها وشم يتماوج كلما نزلت الماء، حين تستحم تظهر أجزاء من حروف باهتة، تعاود سنوات عمرها النمو كما النخلة العجيبة التي تحرس كفرنا.
ثمة شائعة يتداولها الناس: المحمر الذي يسكن البيت الأبيض يبحث عنها؛ يدعي أنها تخفي سرا في لفافة تودعها باطن سرداب عجيب، تمسك بخيط ينتهي عند قرارة بئر تحرسه جنود من بني الأحمر.
في كوة بجدار حجرتها التي تسكنها قبوا، ترتق ثيابها، تمسك بحجر أبيض ومن ثم ترسم خيوطا، تحدث قوما لم تعد لهم غير خيالات في ذاكرتها، تلقى بالنوى عند الشاطيء الأيمن، يتسلل إلى كفرنا هؤلاء الغرباء ذوو الأقدام الغليظة، يبثون شائعة: الجدة الرومية ساحرة شريرة؛ ستخنق القمر حين يأتي الليل الطويل؛ نتساءل ومتى هو؟
تبتسم الرومية ومن ثم تعاود الغوص في النهر وترمي في باطنه بتميمة من وراء أخرى.
تأتي سفن عملاقة تشق النهر؛ ترمي بشرر يحاصر القصر، نجري ونختبيء وراء التلة، طائرة تترصد الفارين من سطوة القهر، تتمايل النخلة العجوز، نصعد إلى أعلاها، تلقي على الجوعى رطبا جنيا، تدب الحياة في جسد الرومية، تلقي بعصاها فإذا هي فتيان وفتيات في عمر زهور الربيع، تمرح أختي تزدهي بأن شعرها يشبه شعر الجدة.

Related posts

Leave a Comment